صالح ... (الضي) الذي لم ينطفئ


لم يلج صالح الضي دنيا الغناء من الباب السهل، فقد صادف ظهوره العمالقة: الكاشف، أحمد المصطفى، حسن عطية، عثمان حسين، إبراهيم عوض.. وغيرهم. لكن لصالح ميزات اخر، فوالده هو الضي آدم رمضان؛ عازف آلة (البروجي) الماهر التي كان يستخدمها الجيش في نداءاته المختلفة. وكان الضي حاضراً في الألعاب الشعبية (الجراري، التويا، الهسيس) وغناء (الكرير). 
حكى لنا أخاه آدم الضي، الذي جلسنا اليه بصحبة ابن اخيه الإعلامي علاء الدين محمد الضي الذي وثق له عبرسفره (الفنان صالح الضي.. طرب الزمن الجميل) بمنزله بالثورة. يقول: كنت وصالح والأخ الأكبر محمد بالأبيض بعد انتقالنا بصحبة الوالد اليها في العام 1942م من ديارنا ببارا. كنا ننتظر الجيش لنردد من خلفه الجلالات المشهورة حتى حفظناها عن ظهر قلب، وصرنا نتتبع الجيش في المدينه مبهورين.. وأحيانا نقضي الساعات بلا ملل ونحن ننظر الى الوالد يقوم بتلميع آلاته الموسيقية. 
* بارا المدينة الأولى في حياته 
شهدت هذه المدينه الحالمة بولاية شمال كردفان ميلاد صالح الضي في العام 1936م، وبالأبيض عندما بلغ السابعة من عمره درس الابتدائية بمدرسة الأبيض، لكنه اتجه الى عمل النجارة وصار من أشهر صانعي الأثاث بالمدينة. غير أن رحيل الوالد في العام 1952م من الأسباب التي سارعت برحيله الى مدينة بورتسودان، بعد مضيّه وقتا ليس بالكثير مع شقيقه محمد الضي عازف الكمان المعروف بأم درمان. 
* عشر سنوات ببورتسودان 
ويواصل حاج آدم، شقيق المرحوم الفنان صالح الضي الذي تحامل على آلام المرض، حديثه لـ(السوداني) أن صالح الضي قد قضى عشر سنوات بمدينة بورتسودان منذ العام 1962م حتى ظنه كثير من الناس أنه من أبناء تلك المدينة التي أحبها لدرجة كبيرة، وبها تفتقت موهبته الغنائية وعرفه الناس عبر أشهر أغنياته (أوعك تخلف الميعاد)، (يا جميل يا حلو)، (يا عينيا)، وغيرها. 
* دخوله الإذاعة 
من أطرف ما حكاه حاج آدم عن دخول صالح الى الإذاعة في العام1969م: كان يصطحبنا انا ومحمد كعازفين، وكانت لجنة الإجازة وقتها تتكون من (عثمان زين، عابد كوكو، حسن الخواض، العاقب محمد حسن، علاء الدين حمزة)، وكانت دهشة اللجنة عندما علمت أننا أشقاء ووقفوا مبهورين، حين غنى صالح (ليالي الحب، الميعاد، يا جميل يا حلو). 
ويقول علاء الدين الضي هنا: من المفارقات الغريبة بالإذاعة وقتها أن أشهر أغنياته التي عرفها الناس (عيش معاي الحب) قد رفضت من قبل الإذاعة. 
* رحلته إلى مصر 
يحكي علاء الدين محمد الضي (ابن اخيه) عن تلك الرحلة إلى مصر انه وفي ذات اللحظة فقط قبيل اقلاع الطائرة التي اقلت صالح الضي إلى القاهرة كان الرئيس الأسبق نميري قد تستلم مقاليد السلطة بالبلاد.. كان صالح قد ذهب طلبا للدراسة بمعهد الموسيقى العالي بمصر، وكان العديد من الفنانين السودانيين قد درسوا بالمعهد، منهم على سبيل المثال العاقب محمد الحسن، سيد خليفة، أحمد المصطفى، محمد عبد الله محمدية. 
وأضاف حاج آدم قائلا (وقد تذكر تلك الأيام الخوالي): كنت عندما اذهب إلى مؤتمرات اتحادات عمال النقل العربي التقيه بشقته بوسط القاهرة التي كانت قبلة لكل السودانيين، اجده يجتمع إلى السر قدور، ابو آمنة حامد وكثير من المبدعين الذين يأتون إلى القاهرة، وفيها كتب اغنيته الشهيرة (يا طير يا ماشي لي أهلنا) التي كتبها ولحنها وأداها. 
* قصة العودة 
ظل صالح الضي بمصر زمنا طويلا نشطا في كل المحافل حيث عمل في اذاعة ركن السودان مسؤولا عن قسم الموسيقى فيها وشارك المصريين في (اوبريت الجلاء) السنوي، كما شارك مع فرقة رضا الغنائية الاستعراضية التي أعجبت بلحن أغنيته (أوعك تخلف الميعاد) لتضع عليها لحن رقصة (الحمامة) التي أدّتها الفرقة لاحقاً بالمسرح القومي بأم درمان وسط إعجاب السودانيين. 
ورغم هذا النشاط لصالح الضي بالقاهرة الا ان مأمون عوض ابو زيد استطاع ان يقنعه بضرورة العودة إلى السودان بسبب تهيئة ظروف الإبداع بالداخل، فعاد في العام 1972م يحمل معه أغنياته منوّتة بشكل علمي.. وسرعان ما سجل للإذاعة منها (دلال)، (الميعاد)، (رسالة)، وبدأ يتفاعل مع المجتمع مشاركاً في أفراحه ومناسباته ويستجيب لكل الدعوات التي تصل اليه من الأهل والأصدقاء. 
لم يدم الحال طويلا فقد ملت الفرقة الموسيقية التي لم تكن معتادة على الغناء الجاد والصعب عزف أغنياته على النوتة وبيروقراطية الأجهزة الإعلامية معجلة برحيله مرة أخرى الى مصر.. وفي هذا يقول علاء الدين إن صالح كان يجلس للتسجيل منذ التاسعة صباحاً (الموعد الذي ضرب له) حتى الخامسة مساء دون أن يتمكن من التسجيل.. مما جعله يغضب بشدة ويقول لهم بصالون عمه الحاج آدم باستياء بائن (أنا ماشي وما أظن أجي راجع تاني). 
* تسجيلاته للتلفزيون 
سجل صالح الضي للتلفزيون قبل رحيله مرة اخرى الى مصر حوارات (سهرة) مع متوكل كمال في العام 1973م، وغنى في تلك السهرة أغنياته (عيش معاي الحب)، (الميعاد)، (يا طير يا ماشي لي أهلنا)، كما سجل لمحجوب عبد الحفيظ حوارا فنيا في بداية الثمانينيات. 
ويقول علاء الدين الضي إنه من المؤسف حقاً أن يحول تغير نظام الأشرطة في التلفزيون الى الديجتال دون حفظ أغنيتيه الفصيحتين (ضاحك المقل)، و(اللقاء المستحيل)، للراحل أبو آمنة حامد، ذلك لأن الأشرطة التي سجل بها لا يمكن نسخها الى النظام الجديد لعدم توفر إسبيراتها. 
* أغنياته الشهيرة 
غنى الضي الكثير من الأغنيات فاقت عددا الـ(23) أغنية، فغنى لأسحق الحلنقي (شريك حياتي)، (عيش معاي الحب)، (بتتغير)، ولأبو آمنة حامد (نحن ما ناسك)، (اللقاء المستحيل)، (ضاحك المقل)، (سنتحد)، وغنى لمحجوب شريف الشوق والغرور)، ولتاج السر عباس (ثورة شعب)، و(دلال) لبابكر عبد الرحمن، و(سلوان) لخليفة الصادق، كما غنى للشاعر محمد علي أبو قطاطي (فرحة)، (أزهار المحبة).. كما كتب صالح الكثير من الأغنيات الخاصة به ووضع الحانها بنفسه.
* زواجه 
لارتباط الفنان صالح الضي ببورتسودان والشرق كان يقوم برحلات مستمرة الى أسمرا مع مجموعة من الفنانين السودانيين، وفي أسمرا التقى بزوجته الصيدلانية الإريترية (الماظ)، ومنها أنجب ابنته الوحيدة (عزيزة)، وكانت الماظ تخاف جداً على زوجها من المعجبات للدرجة التي كانت تصر أن يصطحبها في جميع حفلاته، مما عجل بانفصالهما، ليتزوج صالح مرة أخرى من مصرية أقامت معه بالقاهرة. 
* الحلنقي يحكي عن صديقه.. 
عندما حدثنا الشاعر إسحق الحلنقي عن صديقه الضي، بدا متأثراً فقد صمت لفترة من الوقت قبل أن يقول: صالح من أقرب الناس الى نفسي، التقينا في بداية السبعينيات، وكنا لا نفترق أبداً، فما ذهبت الى مكان الا كنت بصحبته.. كنا كالتوائم، وقد أرادت الظروف أن نسكن معاً في بيت المال الى جانب الفنان أبو عركي البخيت، وخليل إسماعيل، والفنان محمد الأمين، كنا نصحو معاً في الصباح لنعد الإفطار والشاي قبل أن نذهب بأرجلنا الى حوش الإذاعة، واعتبر أغنيته (يا عينيا) من أجمل الأغنيات التي غناها صالح، فقد كان موفقا في اختيار أغنياته وألحانه التي يضعها بنفسه. وأذكر عندما كنت اجلس بشجرة الإذاعة الشهيرة ومعي الفنان الموسيقار العاقب محمد حسن الذي قال لي عندما لحظ صالح يسير في اتجاهنا: "صالح يتميز بعبقرية في ألحانه التي يضعها، لأنه يعتمد على الموهبة الفطرية".. وكان صالح-والحديث للحلنقي- صاحب كاريزما خاصة.. فعندما فكرت في منح الملحن المعروف بشير عباس أغنية (بتتغير) ليضع لها اللحن للبلابل اعترض عليّ الضي طالبا تلك الأغنية ليغنيها، فوضع لها اللحن وغناها كأحسن ما يكون.
وعن ميزات صالح الشخصية قال الحلنقي: كان صالح كما الطفل الصغير؛ صافياً في ضحكته، يجامل الناس لدرجة كبيرة، حتى إنه يمكن أن يغني بالمجان في الأعراس. وعندما اعترضت عليه في ذلك قال لي: "ماذا يعني أن ننام بمنازلنا، وبإمكاننا إسعاد الناس؟".. وختم الشاعر إسحق الحلنقي كلماته بالقول: محزن ان لا يجد فنان مثل صالح التكريم اللائق به، فلا يمكن أن تكرم الثريات وتترك النجوم؟!. 
* عودته الأخيرة لمصر ووفاته 
كان صالح الضي قد عاد الى مصر مرة أخرى في نهاية العام 1984م ليقيم بحي السيدة زينب (أحد أحياء القاهرة الشعبية)، وبها لقي ربه في الثامن والعشرين من يوليو 1985م ضمن مجموعة من الأصدقاء من الجنسيات المختلفة بعد تعرضهم لحادث تسمم شهير أودى بحياتهم جميعاً. 
ذهب (الضي).. الذي لم ينطفئ بعد رحلة من العطاء الفني الممتد، تاركا ثروة غنائية قيمة ما تزال تتغنى بها الأجيال وتسعد من بعده.. له الرحمة بقدر ما قدم. ترحموا معنا عليه ونحن نحيي ذكراه الثالثة والعشرين والتي توافق اليوم 28 يوليو 2007

منقول صحيفة السودانى 28/7/2007



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق